الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الزمخشري: {وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْبًا قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}{إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ} يريد: بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف. أو أراكم بنعمة من اللّه حقها أن تقابل بغير ما تفعلون. أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه، كقول مؤمن آل فرعون: {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا} {يَوْمٍ مُحِيطٍ} مهلك من قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} وأصله من إحاطة العدوّ. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ، أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. فإن قلت: النهى عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله: {أوفوا}؟ قلت: نهوا أولا عن عين القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان، لأنّ في التصريح بالقبيح نعيًا على المنهي وتعييرًا له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحًا بلفظه، لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه، وجيء به مقيدًا بالقسط: أي ليكن الإيفاء على وجه العدل والتسوية، من غير زيادة ولا نقصان، أمرًا بما هو الواجب، لأن ما جاوز العدل فضل وأمر مندوب إليه. وفيه توقيف على أنّ الموفى عليه أن ينوى بالوفاء بالقسط، لأنّ الإيفاء وجه حسنه أنه قسط وعدل، فهذه ثلاث فوائد.البخس: الهضم والنقص. ويقال للمكس: البخس. قال زهير:وروى: مكس درهم، وكانوا يأخذون من كل شيء يباع شيئًا، كما تفعل السماسرة. أو كانوا يمكسون الناس. أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. والعثى في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل. ويجوز أن يجعل التطفيف والبخس عثيا منهم في الأرض بَقِيَّتُ اللَّهِ ما يبقى لكم من الحلال بعد التنزه عما هو حرام عليكم {خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا، وإنما خوطبوا بترك التطفيف والبخس والفساد في الأرض وهم كفرة بشرط الإيمان. فإن قلت: بقية اللّه خير للكفرة، لأنهم يسلمون معها من تبعة البخس والتطفيف، فلم شرط الإيمان؟ قلت: لظهور فائدتها مع الإيمان من حصول الثواب مع النجاة من العقاب، وخفاء فائدتها مع فقده لانغماس صاحبها في غمرات الكفر.وفي ذلك استعظام للإيمان، وتنبيه على جلالة شأنه. ويجوز أن يراد: إن كنتم مصدقين لي فيما أقول لكم وأنصح به إياكم. ويجوز أن يراد. ما يبقى لكم عند اللّه من الطاعات خير لكم، كقوله: {وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ} وإضافة البقية إلى اللّه من حيث أنها رزقه الذي يجوز أن يضاف إليه. وأمّا الحرام فلا يضاف إلى اللّه ولا يسمى رزقًا، وإذا أريد بها الطاعة فكما تقول: طاعة اللّه. وقرئ: {تقية اللّه}، بالتاء وهي تقواه ومراقبته التي تصرف عن المعاصي والقبائح {وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} وما بعثت لأحفظ عليكم أعمالكم وأجازيكم عليها، وإنما بعثت مبلغًا ومنبهًا على الخير وناصحًا، وقد أعذرت حين أنذرت. .[سورة هود: آية 87] {قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}كان شعيب عليه السلام كثير الصلوات، وكان قومه إذا رأوه يصلى تغامزوا وتضاحكوا، فقصدوا بقولهم: {أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ} السخرية والهزء- والصلاة وإن جاز أن تكون آمرة على طريق المجاز، كما كانت ناهية في قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ} وأن يقال: إنّ الصلاة تأمر بالجميل والمعروف، كما يقال: تدعو إليه وتبعث عليه- إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته، وأرادوا أنّ هذا الذي تأمر به من ترك عبادة الأوثان باطل لا وجه لصحته، وأنّ مثله لا يدعوك إليه داعى عقل، ولا يأمرك به آمر فطنة، فلم يبق إلا أن يأمرك به آمر هذيان ووسوسة شيطان، وهو صلواتك التي تداوم عليها في ليلك ونهارك، وعندهم أنها من باب الجنون ومما يتولع به المجانين والموسوسون من بعض الأقوال والأفعال. ومعنى تأمرك {أَنْ نَتْرُكَ} تأمرك بتكليف أن نترك {ما يَعْبُدُ آباؤُنا} لحذف المضاف الذي هو التكليف، لأنّ الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. وقرئ أَصَلاتُكَ بالتوحيد. وقرأ ابن أبى عبلة: أو أن تفعل في أموالنا ما تشاء، بتاء الخطاب فيهما، وهو ما كان يأمرهم به من ترك التطفيف والبخس، والاقتناع بالحلال القليل من الحرام الكثير.وقيل: كان ينهاهم عن حذف الدراهم والدنانير وتقطيمها، وأرادوا بقولهم: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} نسبته إلى غاية السفه والغىّ، فعكسوا ليتهكموا به، كما يتهكم بالشحيح الذي لا يبضّ حجره فيقال له: لو أبصرك حاتم لسجد لك. وقيل: معناه إنك للمتواصف بالحلم والرشد في قومك، يعنون أنّ ما تأمر به لا يطابق حالك وما شهرت به..[سورة هود: آية 88] {قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَماتَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}{وَرَزَقَنِي مِنْهُ} أي من لدنه رِزْقًا حَسَنًا وهو ما رزقه من النبوّة والحكمة. وقيل {رِزْقًا حَسَنًا} حلالا طيبًا من غير بخس ولا تطفيف. فإن قلت: أين جواب {أَرَأَيْتُمْ} وما له لم يثبت كما أثبت في قصة نوح ولوط؟ قلت: جوابه محذوف، وإنما لم يثبت لأنّ إثباته في القصتين دلّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادى عليه. والمعنى: أخبرونى إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربى وكنت نبيًا على الحقيقة، أيصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي؟ والأنبياء لا يبعثون إلا لذلك؟ يقال: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مول عنه، وخالفني عنه إذا ولى عنه وأنت قاصده. ويلقاك الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه؟فيقول: خالفني إلى الماء، يريد أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صادرًا. ومنه قوله تعالى: {وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ} يعنى أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها، لأستبد بها دونكم {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ} ما أريد إلا أن أصلحكم بموعظتى ونصيحتي وأمرى بالمعروف ونهي عن المنكر {مَا اسْتَطَعْتُ} ظرف، أي: مدّة استطاعتي للإصلاح، ويجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف على قولك: إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت. أو مفعول له كقوله:أى ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم {وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ} وما كوني موفقًا لإصابة الحق فيما آتى وأذر، ووقوعه موافقًا لرضا اللّه إلا بمعونته وتأييده. والمعنى: أنه استوفق ربه في إمضاء الأمر على سننه، وطلب منه التأييد والإظهار على عدوّه، وفي ضمنه تهديد للكفار وحسم لأطماعهم فيه. .[سورة هود: الآيات 89- 90] {وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)}جرم مثل كسب في تعديه إلى مفعول واحد، وإلى مفعولين تقول: جرم ذنبًا وكسبه، وجرمته ذنبًا وكسبته إياه، قال:ومنه قوله تعالى: {لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ} أي لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب.وقرأ ابن كثير بضم الياء، من أجرمته ذنبًا، إذا جعلته جار ما له، أي كاسبًا، وهو منقول من جرم المتعدي إلى مفعول واحد، كما نقل: أكسبه المال، من كسب المال. وكما لا فرق بين كسبته مالا وأكسبته إياه، فكذلك لا فرق بين جرمته ذنبًا وأجرمته إياه. والقراءتان مستويتان في المعنى لا تفاوت بينهما، إلا أن المشهورة أفصح لفظًا، كما إن كسبته مالا أفصح من أكسبته.والمراد بالفصاحة: أنه على ألسنة الفصحاء من العرب الموثوق بعربيتهم أدور، وهم له أكثر استعمالا. وقرأ أبو حيوة، ورويت عن نافع: مِثْلُ ما أَصابَ، بالفتح لإضافته إلى غير متمكن، كقوله: {وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ} يعنى أنهم أهلكوا في عهد قريب من عهدكم، فهم أقرب الهالكين منكم. أولا يبعدون منكم في الكفر والمساوى وما يستحق به الهلاك. فان قلت: ما لبعيد لم يرد على ما يقتضيه قوم من حمله على لفظه أو معناه؟ قلت: إما أن يراد: وما إهلاكهم ببعيد، أو ما هم بشيء بعيد أو بزمان أو مكان بعيد. ويجوز أن يسوى في قريب وبعيد، وقليل وكثير، بين المذكر والمؤنث لورودها على زنة المصادر التي هي الصهيل والنهيق ونحوهما {رَحِيمٌ وَدُودٌ} عظيم الرحمة للتائبين، فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة بمن يودّه، من الإحسان والإجمال. .[سورة هود: الآيات 91- 95] {قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)}{ما نَفْقَهُ} ما نفهم {كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ} لأنهم كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهية له، كقوله: {وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ}. أو كانوا يفقهونه ولكنهم لم يقبلوه، فكأنهم لم يفقهوه. وقالوا ذلك على وجه الاستهانة به، كما يقول الرجل لصاحبه إذا لم يعبأ بحديثه: ما أدرى ما تقول. أو جعلوا كلامه هذيانًا وتخليطًا، لا ينفعهم كثير منه، وكيف لا ينفعهم كلامه وهو خطيب الأنبياء، وقيل: كان ألثغ {فِينا ضَعِيفًا} لا قوة لك ولا عز فيما بيننا، فلا تقدر على الامتناع منا إن أردنا بك مكروها. وعن الحسن ضَعِيفًا مهينًا. وقيل ضَعِيفًا أعمى. وحمير تسمى المكفوف: ضعيفًا، كما يسمى ضريرًا، وليس بسديد، لأنّ فِينا يأباه.ألا ترى أنه لو قيل إنا لنراك فينا أعمى، لم يكن كلاما، لأن الأعمى أعمى فيهم وفي غيرهم، ولذلك قللوا قومه حيث جعلوهم رهطا. والرهط: من الثلاثة إلى العشرة. وقيل: إلى السبعة.وإنما قالوا: ولولاهم، احتراما لهم واعتدادا بهم، لأنهم كانوا على ملتهم، لا خوفا من شوكتهم وعزتهم لَرَجَمْناكَ لقتلناك شرّ قتلة {وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ} أي لا تعزّ علينا ولا تكرم، حتى نكرمك من القتل ونرفعك عن الرجم. وإنما يعزّ علينا رهطك، لأنهم من أهل ديننا لم يختاروك علينا ولم يتبعوك دوننا، وقد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل، كأنه قيل: وما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزة علينا، ولذلك قال في جوابهم {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} ولو قيل: وما عززت علينا، لم يصح هذا الجواب.فإن قلت: فالكلام واقع فيه وفي رهطه وأنهم الأعزة عليهم دونه، فكيف صح قوله: {أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ} قلت: تهاونهم به- وهو نبىّ اللّه- تهاون باللّه، فحين عز عليهم رهطه دونه كان رهطه أعز عليهم من اللّه. ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ}، {وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا} ونسيتموه وجعلتموه كالشئ المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به، والظهرىّ: منسوب إلى الظهر والكسر من تغييرات النسب. ونظيره قولهم في النسبة إلى أمس: أمسىّ {بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قد أحاط بأعمالكم علمًا، فلا يخفى عليه شيء منها {عَلى مَكانَتِكُمْ} لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة. أو تكون مصدرًا من مكن مكانة فهو مكين. والمعنى: اعملوا قارّين على جهتكم التي أنتم عليها من الشرك والشنآن لي. أو اعملوا متمكنين من عداوتي مطيقين لها {إِنِّي عامِلٌ} على حسب ما يؤتينى اللّه من النصرة والتأييد ويمكنني {مَنْ يَأْتِيهِ} يجوز أن تكون مَنْ استفهامية، معلقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون أينا يأتيه عذاب يخزيه، وأينا هو كاذب، وأن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنه قيل: سوف تعلمون الشقىّ الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب.فإن قلت: أي فرق بين إدخال الفاء ونزعها في {سَوْفَ تَعْلَمُونَ}؟ قلت: إدخال الفاء: وصل ظاهر بحرف موضوع للوصل، ونزعها: وصل خفى تقديرىّ بالاستئناف الذي هو جواب لسؤال مقدّر، كأنهم قالوا: فما ذا يكون إذا عملنا نحن على مكانتنا وعملت أنت؟ فقال: سوف تعلمون، فوصل تارة بالفاء وتارة بالاستئناف، للتفنن في البلاغة كما هو عادة بلغاء العرب، وأقوى الوصلين وأبلغهما الاستئناف، وهو باب من أبواب علم البيان تتكاثر محاسنه {وَارْتَقِبُوا} وانتظروا العاقبة وما أقول لكم {إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي منتظر. والرقيب بمعنى الراقب، من رقبه، كالضريب والصريم بمعنى الضارب والصارم. أو بمعنى المراقب، كالعشير والنديم. أو بمعنى المرتقب، كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع. فإن قلت: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم أتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم، فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو صادق، حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين، ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت، ولكنهم لما كانوا يدعونه كاذبًا قال: {وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ} يعنى في زعمكم ودعواكم، تجهيلا لهم. فإن قلت: ما بال ساقتى قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والساقتان الوسطيان بالفاء؟ قلت. قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعد، وذلك قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ}، {ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} فجيء بالفاء الذي هو للتسبيب، كما تقول: وعدته فلما جاء الميعاد كان كيت وكيت. وأما الأخريان فلم تقعا بتلك المثابة. وإنما وقعنا مبتدأتين، فكان حقهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما كما تعطف قصة على قصة. الجاثم: اللازم لمكانه لا يريم، كاللابد، يعنى أن جبريل صاح بهم صيحة فزهق روح كل واحد منهم بحيث هو قعصا {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا} كأن لم يقيموا في ديارهم أحياء متصرفين متردّدين. البعد: بمعنى البعد وهو الهلاك، كالرشد بمعنى الرشد. ألا ترى إلى قوله: {كَما بَعِدَتْ}؟ وقرأ السلمى: بعدت، بضم العين، والمعنى في البناءين واحد، وهو نقيض القرب، إلا أنهم أرادوا التفصلة بين البعد من جهة الهلاك وبين غيره، فغيروا البناء كما فرقوا بين ضماني الخير والشر فقالوا: وعد وأوعد، وقراءة السلمى جاءت على الأصل اعتبارًا لمعنى البعد من غير تخصيص، كما يقال: ذهب فلان ومضى، في معنى الموت. وقيل: معناه بعدًا لهم من رحمة اللّه كما بعدت ثمود منها. اهـ.
|